١٤٢٧/١٠/٠٩

ذم الثقلاء .. الجدد

كتاب ذم الثقلاء
تأليف: أبي بكر محمد بن خلف بن المرزبان المُحَوَّلي البغدادي ت 309هـ
كان أخباريا صدوقا ثقة ، من مصنفاته : تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ، وكتاب السودان وفضلهم على البيضان ، وكتاب المتيمين .. وكتب أخرى كثيرة .
منها كتاب ( ذم الثقلاء ) بتقديم وتحقيق د. محمد حسين الأعرجي ، ومنشورات دار الجمل .
في هذه النقولات الموجزة عرض وتلخيص واختيار ، والثقلاء حفظهم الله ورعاهم هم بلوى في كل زمان ومكان ، ولعل ابن المرزبان قد أثار في كتابه عنهم موضوعا شائقا وطريفا ..
قرأتُ الكتاب من السبت 4 صفر حتى الأربعاء 8 صفر 1427هـ بيني وبين نفسي ، وبيني وبين الآخرين ، ولعلي ـ ولستُ داريا ـ كنتُ أشّهر بالثقلاء ، أو أنشرُ الكتاب
بدأتُ في عرض الكتاب من السبت 11 صفر .. وها أنذا خائف من عصابة الثقلاء بمختلف أطيافهم وأحزابهم .
مشكلة الثقيل (عكس خفيف الدم ، وليس ثقيل الوزن) أنه لا يعلم أحيانا كثيرة بمدى ثقالته وبطالته ، وأحيانا يعلم ، ولكن يمارس عليك إرهابا مسكوتا عنه ..
الدكتور الأعرجي قال في الإهداء: إلى الذين خافوا من الأرض أن تميد بهم ، فأوسعوا الناس كلهم ثِقَلا . إلى ثقلاء الزمن العربي الرديء من الكبار عسى أن يخفوا قليلا ، أو يخفوا عنا .
طبعا لابد من الناحية الإنسانية والحقوقية لـ (ثقلاء ابن المرزبان) أن تصاغ لهم قوانين تحميهم وتحمي منهم ، أما هنا فأنا أناقش موضوعا أدبيا فيه الكثير من الطرافة والجدة والضحك .
· عن أنس أن رسول ( ص) في حديث رواه قال: لما أهديت زينت إلى رسول الله (ص) صنع طعاما ودعا القوم فجاؤوا ودخلوا فجعلوا يتحدثون وجعل رسول الله (ص) يخرج ثم يرجع وهم قعود فنزلت آية 53 من سورة الأحزاب { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي حتى يؤذن لكم غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما }
في بهجة المجالس قال الحسن البصري: نزلت في الثقلاء . قال القرطبي: الجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله لما تزوج زينب بنت جحش امرأة زيد أَوْلمَ عليها فدعا الناس فلما طعموا جلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول الله وزوجته مولية وجهها نحو الحائط ، فثقلوا على رسول الله قال أنس: فما أدري أأنا أخبرت النبي أن القوم خرجوا أو أخبرني ، قال فانطلق حتى دخل البيت فذهبتُ أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب .

· عن الحسن قال لقد ذم الله عز وجل الثقل في القرآن فقال: {فإذا طعمتم فانتشروا}
· عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (ص) قال ألا أخبركم بأبغضكم إلى الله قلنا بلى يا رسول الله قال فظننت أنه سيسمى رجلا فقال إن أبغضكم إلى الله أبغضكم إلى الناس .
· عن عمر بن الخطاب قال كنت جالسا عند النبي (ص) فقال ألا أخبركم بخير أئمتكم قلنا بلى يا رسول الله قال الذين تحبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم ألا أخبركم بشرار أئمتكم قلنا بلى يا رسول الله قال الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم .
· عن محمد بن كعب القرظي قال دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال أعد لي حديثا كنت حدثته عن ابن عباس فقال أتيت النبي (ص) فقال ألا أنبئكم بشراركم قالوا بلى يا رسول الله قال: الذي ينزل وحده ، ويجلد عبده ، ويمنع رفده ألا أنبئكم بأشر من هذا الذي يبغض الناس ويبغضونه .
· عن جابر قال قال رسول الله (ص): أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقا وأبغضكم إليّ الثرثارون والمتشدقون المتفيهقون قيل قد عرفنا الثرثارون فما المتشدقون المتفيهقون فقال المستكبرون .

طبعا الثرثار والمتشدق والمتفيهق من أثقل الثقلاء على القلب والروح والأذن ، وهذا بلاء عام ، يكاد يكون وباء ، بل هو وباء حقيقي أسميه (أنفلونزا الثرثرة) و (حمى التشدق) و (سارزالتفيهق) ، وانظر القنوات الفضائية ، واسمع خطباء المنابر والمساجد ، واقرأ الصحف اليومية ..
سبحان البارئ المصور .. ترى كل مَن يتمتشدق باسم الدين ، أو يثرثر باسم الوطنية ، أو يتفيهق باسم العروبة أو الفكر أو الأدب أو أي فكرة صغيرة أو كبيرة ، وهو يرجم القراء والمشاهدين براجمة الصواريخ البالستية من الكلام المتعثر الممجوع .. وأكثر الناس مسالمون ، ما زالوا طيبين مستمعين ..!!
فعلا الثقلاء مشكلة اجتماعية تبدأ من الرصيف ، ولا تنتهي بأروقة الجامعات ، وعليه نحتاج ‘لى ابن المرزبان كي يصنف لنا كتاب (ذم الثقلاء الجدد) على وزن المحافظين الجدد .. من ديك تشيني إلى معمر القذافي بوصفه مثقفا !!

· خرج موسى (ع) يستسقي فلم يسق فقال يا رب خرجت مع بني إسرائيل استسقي فلم تسقنا فأوحى الله إليه أنه كان فيهم عبد أبغضه قال يا رب من هو حتى أبغضه كما أبغضته قال يا موسى أنا أبغض التباغض من خلقي فكيف أخبرك .
· كان أبو هريرة إذا ثقل عليه الرجل قال اللهم اغفر له وأرحنا منه .
· كان رجل يأتي أبا هريرة فانقطع فقال جماعة لعله مات ، فقال ليس في الموت شماتة ألا قلتم استُعمل على إمارة أو أصاب مالا أو ولد له غلام .
· قال عمر بن الخطاب من أمِن الثِّقَلِ فهو ثقيل .
· عن إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان عن أبيه: من خاف أن يكون ثقيلا فهو خفيف .

وللحديث بقية ..

شمال شرق القلب 2

تتداخل المعاني في بعضها ، ويختلط المجاز في الحقيقة حينما تنثال الروح في حكائيتها ونقاوتها الزرقاء بين الرمال والنباتات البرية !!
الصحراء بتول .. تعلم الروح معنى أن تكون بتولة ومبتلة ومتبتلة في سرمديتها النقية ، كان البشر يتكلمون منذ مئات السنين فلما صمتوا أخذت الصحراء دورهم فصارت الأشياء تتكلم وتغني .. والنباتات تزداد اخضرارا كلما تناغى اثنان بالكلام الجميل ..
سقيمٌ هو قلبي إذا ظل على حياده في الصحراء .. وخارج عن مداره إذا التزم الصمت في رحاب الأبجدية وسط بحر الكلام العربي .
كانت الدعابات والقصائد زادَ الرحلة .. فهي النقول في مدار الأحاديث اللاهية والجادة .. الضاحكة والمسرفة في الضحك ..حتى التبسنا بقول القائل : مسافرون زادهم الخيال !!
تعجبني مفردة الالتباس بقدها الممشوق وروحها المفرطة في الحيوية ؛ خصوصا إذا انسابت في سياقها الأنثوي .. عوّدنا نحاة العربية على وضع قواعد أمنية لأمن اللبس أو الالتباس ، وخالفهم في ذلك نحاة الصحراء ، فأكثر ما يكون المرء ملتبسا بحال صوفية ، أو بلحظة وجدانية ، أو بصعقة أنثوية يكون أكثر انتماء للصحراء .. أووه عفوا يكون أكثر التباسا بذاته !! إذن كما هي الصحراء دائما غارقة في حال الالتباس أو في شبهته تحاول كشفه أو نفيه أو ترويضه أو إزالته أو رفعه غير خائفة من الوقوع في عوارضه أو مهاويه أو إغرائه !
ولأنني بصّاصٌ ذو عينٍ بصّاصةٍ أو ربما بعبارة أرهف ذو نزعة حسية قد أدمنتُ مطالها دون جدوى .. فهذا يعني أنّ حواسي الخمس تسبقني في قراءة الأشياء ؛ بمعنى أنني أحبُّ أن أراها فأشتمَها فأسمعها فأتذوقها فألمسها حتى انتشرت هذه العدوى بنزعتها الصحراوية في الشخوص والأراء والأفكار والجماليات ، وتشتد وطأة الرغبة أكثر حين تصفحي الصور والوجوه أو ما في معناهما !
مما وطأت قدماي ، ورأته عيناي في تلك الصحراء على لوحاتها الإرشادية الزرقاء ( السوبان ) تذكرتُ لحظتها زهير في مشهديته الجميلة :
ظهرن من السوبان ثم جزعنه * على كل قيني قشيب ومفأم
وورّكن في السوبان يعلون متنه * عليهن دلُّ الناعم المتنعم !!
تخيل حسناوات بدويات عليهن دلُّ الناعم المتنعم ، وكأنهن لسن في الصحراء والسوافي تهيل عليهن الرمال من حدب وصوب .. لله أبوك من حكيم متصابٍٍ حسي !!
لا يعنيني ما قاله ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد بأن السوبان يوم لبني عامر على بني تميم أو لبني تميم على عبس وعامر !! ألم أقل لك بأنني بصاص ذو عين بصاصة ؟؟!!
أشكر للصحراء لباقتها ولطفها ورقصتها معنا .. حتى لقاء آخر في يوم من أيام شمال شرق القلب !!
قد يعجبني الجري وراء قطيع الإبل السائبة في تلك السهول الخضراء ، ولكن يعجبني أكثر العدو وراء حلم تائه من شاعر بائس !!
قد يعجبني البحث عن نبتة برية في طعس رمل مبلل بماء السماء ، ولكن يعجبني أكثر حديث المرء بينه وبين نفسه في غفلة من الانشغالات !
قد يدهشني الربيع الفينان في الأيام المطيرة ، ولكن يدهشني أكثر الشعور بالحرية !! ... وانقطع البث بسبب الانشغالات اليومية والروتين الحياتي الآن ، أنا راجع بعد الإعلان !!

١٤٢٧/١٠/٠٧

شمال شرق القلب

اليوم الخميس 8 / 3 / 1427 الموافق 6 / 4 / 2006 ، الساعة الخامسة فجرا بعد الصلاة انطلقنا في رحلة ربيعية إلى الشمال بصحبة الثلاثي المرح ، كان الطقس متغيما مشمسا عليلا طيبا وما برح الطريق سمحا سلسلا ممتعا كنا نمرُّ على مدينة إثر مدينة وهجرة إثر أخرى وقرية بعد أخرى ودسكرة بعد دسكرة وكنا فرحين مستبشين .. فكانت هذه ( اليومية )

في يوم مشمس متغيم والنسيم الصباحي يداعب الهشيم المحطم داخلنا أقلتنا رغبتتا الجامحة وهواجسنا النقية إلى جهة تقع شمال شرق القلب 00منذ زمن حدثتنا عنها المعلقات بأنها واد من أودية الشعر 00 طاف حواليه عنترة وزهير وداعبت أشواكه أخمص أقدامهم ورشقوه شعرا من ثقوب تلوح من قصائدهم حين يحترق الشوق ويجمر الحنين في صدورهم 0
كان يومنا مطيرا بالرؤى العذبة والحكايا الصقيلة كالمرايا 0، وقطرات المطر البلورية تبلل صباحاتنا وأماسينا بالفرح المتهدل كعناقيد العنب !
كان علينا أن نقود قطيع الأحلام المتوارية وراء تلال الروتين اليومي القاتل لقد كنا قنابل موقوتة بالضحك حتى أشرقت شمس العافية علينا كانت تضحك بجاذبية مفرطة في الضوء 00 والألق منها ينثال كما ينثال الحنين والوجل في قلب عاشقين كانا على موعد قد أخذ يتدانى 0
كنا ودودينَ وأصفياء نتحسس أقدامنا الموحلة في طين الضجر والسأم اليوميين لقد كنا أمناء مع أنفسنا أمانة الراعي مع شياهه 00 ولا شيء أجمل من أن نتدفق بعفوية الماء نضحك .. ونغضب .. ونأكل ... ونشرب ... ونغني ... ونتثاءب .. ونختلط بكل ذواتنا في خليط إنساني عجيب وجميل .
نبحث عن عشبة برية فيسبقنا ظلنا إليها .. نطارد فكرة منسية من شاعر عربي أو سيد حكيم نثر ظله فيخطفها طائر شارد من عشه أو عصفورة شقية 00
كل منا يحاول أن يدوّن جنونه كما يميله عليه الجنون ، ولكنه يتلهى بالوله المغروس في روحه للصحراء موطن التطهر والانثيالات 00 كل منا أصبح كائنا صحراويا عذبا ؛ لأنَّ الشمالَ الشرقيَّ للقلبِ أشجارُه مغنّية ، وأطياره راقصة 0
الجنون إذا أصبح في حالة تماس مع الصحاري يشبه شيئا اسمه الجنوح 0أو الأمل المجنح 00 هكذا كان امرؤ القيس يحدث أصحابه في ليل الجنون ؛ ليتخفف من صحراء روحه في الليل البهيم 0
كانت الأرض تتكلم بالشعر والغزل ووصف النبات والكائنات الحية وكأن ما تناسل من أحلام الناس ينبت في الأرض بما يشبع العشق أو العشب تأكله الأبل فينبت في جانحيها الحنين إلى الأرض والسماء والبشر والزهر
.

١٤٢٧/١٠/٠٦

عقلاء المجانين

مفردة ( الجنون ) في القاموس مفردة مشتبه بها ، بل متهمة ، باختصار جدا مفردة مُدَانة حتى في عرف القوانين الدولية ، وفي قوانين غوانتانامو ( فالمجنون يزداد جنونا أكثر في هذا السجن المجنون) ، يحيط بها حتى في أوساط الاختصاصين كثير من القلق ..
واجتماعيا هي مفهوم ملتبس ! كم من مجنون هو أعقل من عقلاء الأمة ، وكم من متعاقل لا تتردد أن ترجمه بحجارة من سجيل !! ولذا نجد في الأدب العربي كتبا كثيرة بعنوان (عقلاء المجانين) ، منها: كتاب من تأليف الإمام أبي القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر ، وسرد ابن الجوزي في كتاب (الأذكياء) قصصا بدأها بقوله: (في ذكر طرف من فطن عقلاء المجانين) ، وعدوا منهم (بهلول) حيث كان له كلام حسن وحكايات ظريفة ، وأيضا ذكروا عقلاء المجانين من العشاق والمعشوقين .. فانظره وتدبّر ، وافهم واغتنم !!
الجنون في القاموس اللغوي من ( جَ نَ نَ ) ، وتحمل في معانيها معنى الاستتار والتغطية وانعدام الرؤية ، مثل : الجن ، الجنين ، الجنة ، الجَنَان ( أي القلب) ، فهي سميت بذلك ؛ لأنها مستترة أو مغطاة أو لا تُرى ، والاجتنان هو الاستتار .
هذا من ناحية اللغة ، أما من ناحية الأدب فيرتبط معناها بمعان أخرى لها دلالات رمزية ثرية لغويا واجتماعيا وأدبيا وسياسيا !! باعتبار الجنون لغة تعبير .. يعبر من خلالها عن الخلجات والمشاعر الجياشة والنغم المستسر وراء الكلمات ، فيأتي معنى الجنون أدبيا وكتابيا بمعنى القدرة على البوح ، والرغبة في الكتابة الحرة ، والمصارحة ، والتخيّل ، والتحليق ، والمغامرة ، والنزوع .. و ... !!
* قالوا في الجنون :
- أندريه جيد : أجمل الأشياء .. أجمل الكتابات هي تلك التي يوحي بها الجنون ويكتبها العقل .
- من ملاحظات شكسبير : القاسم المشترك الأعظم بين المجنون والعاشق والشاعر هو الخيال ، فالمجنون في حالة هذيان ، والعاشق مستثار ، والشاعر شديد الاهتياج . والحب مجرد جنون ..!
- لا توجد قرابة مثبتة بين العبقرية والجنون .
- لم توجد أبدا أية موهبة فطرية عظيمة دون مَسٍّ من جُنون .
- في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين بدأ التقييم المستنير للجنون .
- روبرت بيرتون : كل الشعراء مجانين . وأضاف إليهم الفنانين والفلاسفة .
- درايدن : العقول العظيمة مرتبطة يقينا بالجنون على نحو وثيق .
- بليز باسكال : المفكر العظيم متهم بالجنون تماما كالمجرم العظيم .
- لامارتين : تحمل العبقرية في ذاتها مبدأ الهدم والموت والجنون .
- تشارلز لامب : بعيدا جدا عن موقف القائلين بأن العبقرية العظيمة ملازمة للجنون ، فإن أعظم الموهوبين على النقيض من ذلك ، هم دائما أعقل الكُتّاب ، ومن المستحيل على العقل أن يتصور ، أن شكسبير كان مجنونا .
ألم أقل أن المفهوم اجتماعيا وأدبيا مفهوم ملتبس .. أما أنا سأحاول ( أقول سأحاول) لأنني بطبعي تسويفي .. سأحاول الكتابة في هذا الباب حتى تأسيس ( دولة المجانين ) أو ( جمهورية الجنون الكونية ) .
وأحببت دولة المجانين ببساطة ؛ لأنني أحببت مجانين قريتي أو بالأحرى مدينتي ، مؤخرا توفي أحد من يتهم بالجنون وهو من جيراننا ، والناس كانوا يحاذون الجدار إذا مر بهم ، أما أنا فقد بكيت حينما سمعت بموته ..أظن ظنا قويا أن المجنون أكثر الناس نضجا وحيوية ؛ ولذا هو متهم بالجنون !!

هناك خيط رفيع بين جنون العبقرية والجنون ذاته ؟؟!
أحببت جنون رامبرانت الفنان الهولندي ، وجنون بابلو بيكاسو من خلال فلمين شاهدتهما عنهما !! حيث لفت نظري في الفلمين أن المخرجين ركزا على إبراز شخصيتهما الفنية بتناقضاتها الجنونية والغريبة واللامنطقية أحيانا .
( إن المجتمع هو الذي ينظر إلى من يخرج عن سياقه على أنه مجنون) .. هذا ما قاله انطونان آرتو عن فان غوغ .. وهو ما بدا واضحا في الفلمين عن رامبرانت وبيكاسو ..وفي هذا الكلام بين المزدوجتين كثير من الصحة .. وتسوق في عالم الأفكار والواقع كي ترى ما هو أفظع من ذلك ..

[ في ليلة من ليالي الخريف تناقشت مع بعض الأصدقاء عن بعض من يتهمون بالجنون في البلد .. من هم ؟ كم عددهم ؟ موقف المجتمع منهم سلبا وإيجابا .. أحيانا كثيرة يكون للمجتمع موقف غير إيجابي من هؤلاء مما يسبب لهم ردة فعل قاسية عاطفيا ونفسيا ، ليس معنى هذا أننا من أكمل الناس وعيا وتهذيبا ، وسوف نؤسس جميعة مجانين بلا حدود ، وإنما هو موضوع للنقاش أحببتُ الدردهشة فيه بلغة بسيطة وعادية .. ]

فاصلة شعرية :
نقل العماد الأصفهاني في كتابه خريدة القصر وجريدة العصر الآتي: ذكر لي بعض أصدقائي من بغداد أنه رأى من عقلاء المجانين بها في زماننا رجلا يقال له (طَلْق) ، وأنشدني لنفسه :
لا يغرّنْك اللباس * ليس في الأثواب ناسُ
هم وإن نالوا الثريا * بخلاءٌ وخِساسُ
كل مَن يدعى رئيسا * هو في الخسّة راسُ
ويدٍ تصلح للقطـ * ـع تُفَدّى وتُباسُ

سوانح

صباح هذا اليوم مختلف جدا..
عادة أنام بعد صلاة الفجر ، ولكن هذه الليلة لا بد أن أنام عند الساعة الثانية عشرة ؛ كي أستطيع الاستيقاظ مبكرا ونشيطا .. طبعا لم أستطع النوم بسبب شعوري المستيقظ ، وأكرر بيني وبين نفسي ( بكره دوام ) يلعن شكلك حاول أن تنسى ، ذاكرتي اللعينة إحدى مشاغلي ومشاكلي !!
وعادةً لا أنام إذا كنت أنتظر شيئا مُلِحًّا .. حتى ولو كان موعدا غراميا !!
كعادته يكون الصباح نقيا ومعبأً بالأمل .. هذا اليوم أحسه ثقيلا جدا ؛ لذا عليّ أن أخفف من ثقله بصوت الحصري أو المنشاوي ، أو أطلق خيالي مع صوت فيروز ( نسم علينا الهوى ..) !!
تزدحم في ذاكرتي بعد إجازة العيد ذكريات شهر رمضان المصون المبارك ، فعلا رمضان جميل بروحانيته ، لكل شخص في رمضان برنامجه الخاص ، يشعر بمتعة مميزة وهو يمارس برامجه المحببة ، حتى لو كانت روتينية ..
أجواء رمضان مبللة بالسكينة والهدوء ، وتكون مشجعة على التأمل ، وقراءة القرآن الكريم ، والأدعية .. هذه السكونية المطلقة تفتح نافذة على الكون ، فنصف (السكونية) كونية على ما ترى !!
أنا أشعر في رمضان بهدوء عجيب كامن في الروح يشبه نوعا ما زرقةَ البحر .
فجأة يطل علينا صباح السبت 6 شوال ، وتلوح في الأفق سحابة ( عفوا كآبة) الدوام .. وكما قال جلّ شأنه وتقدس {فلما رأوه عارضا مستقبلَ أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذاب أليم } الأحقاف 24
الناس يمرون بين يديك لا يتنفسون إلا دخان الروتين ، وعوادم السيارات ، وريح الدوام الأليم !
ترى الأطفال يجرجرون خطاهم المثقلة ذهابا إلى الدوام .. لن أخصص بوظيفة معينة يكفي أن تكون دواما مؤبدا وحسب !
كل من تراه يُصبّح عليك بالخير من جيرانك ، يتبع تصبيحته بكلمات مختلطة يعبر بها عن تذمره من الدوام !! أحيانا يقول لك : الدوام لله ، وليس للبشر أو للبقر !
الناس يمضغون مفردة (الدوام) في حلوقهم كما لو أنها العلقم البري .. علكة الدوام بطعم الخيبة ، هكذا أشعر بها !
المغادرون .. والذاهبون .. أو المسافرون إلى الرياض ، أو الدمام ، أو عرعر ، أو الدوادمي ، أو دوحة ضرام أو وادي الدواسر أو (دُسُر) أو .. أو .. لا يستطيعون الكلام دون شعور بالغضب والخيبة .. طبعا هو شعور طبيعي ، تنقشع سحائبه بعد ابتداء الرحلة ، وركوب الراحلة !
وأنت في الشارع من مساء الجمعة أو ليلة السبت لا ترى إلا الحقائب مشدودة ومشحونة بالثياب ، أو محقونة بالغم والهم واللعنات..
كلٌّ تراه ذاهبا أو آيبا يحمل كل ما تصل إليه يداه ويضعه في تلك الحقيبة أو تلك السلة ، وكأنه سيغادر إلى جبهة قتالية ، طبعا من حقه : أليس هو سيذهب إلى جبهة الدوام ..
ضحكات الطلاب .. طبعا والطالبات تكون ممزوجة بالقهر والتهكم والسخرية مع بداية كل عام دراسي ثقيل ، والمعلمون كذلك !
العودة للعمل أو المدرسة أو البنك أو المكتب بقدر ما فيها من شعور جميل بالإنتاج والشغل والحركة والنشاط والانطلاق لكنها (سبحان الله) محشوة كما البندقية بطعم اللون الرصاصي ، طبعا فقط العودة إلى المطار هي العودة الحميدة عند كثير من البشر ، وأنا منهم !
يخذلني بعد كل إجازة من يسألني : أين سافرت ؟
سؤال أكبر من اللازم .. كأن السفر هو المعاند الجميل بحيويته لمفردة الدوام بكآبتها ، السفر معناه لزوم الحرية ، وعدم مغادرة مطار الروح إلا بتأشيرة من القلب ، والدوام سجن مؤبد بلا محاكمة ، السفر خصوصية وتغيير وتنوع وضحك ، والدوام عموم وخصوص من وجه ، و ( لِفَادهْ ) من اللفد وكمية كبيرة من الصداع والصراع !!
أكف الطلاب والمعلمين صباح السبت رطبة أحيانا ، وباردة أحيانا أخرى ، وحارة .. وساخنة .. ودافئة .. ومترقبة .. نادرا ما تشعر بأنها بطعم المعايدة .
هذا العيد اصطف المعلمون كسكة النخل ، وطاف بنا الطلاب جزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء يعايدون .. (حركة مهذبة ومربية من المدير !)

سوالف الطلاب عادة تكون عن الجوالات ( شريت الدلوعه ، وبعت برج العرب) ، أو تكون في السيارات وأدوات الصيانة أو في أحاديث تعجبهم ولا تعجب المدرسين ( طبعا واحد يكذب ، وواحد يصدق) .. هذا المقطع نقلته كما حفظته من أفواه الطلاب التي تشبه أفواه القرب المفلوتة بالماء من كثرة الكلام .

الساعات بطيئة وكسولة كالسلحفاة المائية ، تدب دبيبا على صيغة فعيل .. والدبيب كما الحبيب كما (الزبيب) يكون مستفزا ..
الغبار بعد كل إجازة تشاهده متكدسا على كل شئ .. على الطاولات والكراسي بل حتى على الروح ، وسالفة الغبار لي معها قصص مستقلة سأسردها يوما ما في ( كتاب الغبار )

الدوام مفردة سالبة للحرية على مستوى البشر بلا نقاش ، أما هي على المستوى الرباني فهي صفة من صفات الله ذي الجلال والإكرام .

١٤٢٧/١٠/٠٥

وردة متوحشة

الكتابة
شعور موحش أحيانا .. ورغبة ناعمة أحيانا أخرى
شبهها أحد الشعراء الذين أحبهم بأنها نمرة متوحشة
واستعرت منه التوحش ، واخترت أن تكون وردة .
قد تكون القدرة على الكتابة نعمة ؛ لأنها تعبير عن الذات ، والانقياد للذات محبب أحيانا كثيرة للإنسان
أشعر بالشبق والإثارة حين أكتب ، والانزعاج الحاد والمكرر حين يقاطعني أحدهم حتى ولو كان عن غير قصد ..
لذا أحببت أن أكون في خلوة ذاتية يومية أعبر فيها بكل حرية عن جنوني .. !!

١٤٢٧/١٠/٠٤

قل ما بدا لك

أول ما حداني للكتابة هو رغبتي الملحة في النظر إلى الحياة من جديد

وجدت مجال القول متاحا .. وكما قيل : الماي حلو والأرض مسمودة !!