مفردة ( الجنون ) في القاموس مفردة مشتبه بها ، بل متهمة ، باختصار جدا مفردة مُدَانة حتى في عرف القوانين الدولية ، وفي قوانين غوانتانامو ( فالمجنون يزداد جنونا أكثر في هذا السجن المجنون) ، يحيط بها حتى في أوساط الاختصاصين كثير من القلق ..
واجتماعيا هي مفهوم ملتبس ! كم من مجنون هو أعقل من عقلاء الأمة ، وكم من متعاقل لا تتردد أن ترجمه بحجارة من سجيل !! ولذا نجد في الأدب العربي كتبا كثيرة بعنوان (عقلاء المجانين) ، منها: كتاب من تأليف الإمام أبي القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر ، وسرد ابن الجوزي في كتاب (الأذكياء) قصصا بدأها بقوله: (في ذكر طرف من فطن عقلاء المجانين) ، وعدوا منهم (بهلول) حيث كان له كلام حسن وحكايات ظريفة ، وأيضا ذكروا عقلاء المجانين من العشاق والمعشوقين .. فانظره وتدبّر ، وافهم واغتنم !!
الجنون في القاموس اللغوي من ( جَ نَ نَ ) ، وتحمل في معانيها معنى الاستتار والتغطية وانعدام الرؤية ، مثل : الجن ، الجنين ، الجنة ، الجَنَان ( أي القلب) ، فهي سميت بذلك ؛ لأنها مستترة أو مغطاة أو لا تُرى ، والاجتنان هو الاستتار .
هذا من ناحية اللغة ، أما من ناحية الأدب فيرتبط معناها بمعان أخرى لها دلالات رمزية ثرية لغويا واجتماعيا وأدبيا وسياسيا !! باعتبار الجنون لغة تعبير .. يعبر من خلالها عن الخلجات والمشاعر الجياشة والنغم المستسر وراء الكلمات ، فيأتي معنى الجنون أدبيا وكتابيا بمعنى القدرة على البوح ، والرغبة في الكتابة الحرة ، والمصارحة ، والتخيّل ، والتحليق ، والمغامرة ، والنزوع .. و ... !!
* قالوا في الجنون :
- أندريه جيد : أجمل الأشياء .. أجمل الكتابات هي تلك التي يوحي بها الجنون ويكتبها العقل .
- من ملاحظات شكسبير : القاسم المشترك الأعظم بين المجنون والعاشق والشاعر هو الخيال ، فالمجنون في حالة هذيان ، والعاشق مستثار ، والشاعر شديد الاهتياج . والحب مجرد جنون ..!
- لا توجد قرابة مثبتة بين العبقرية والجنون .
- لم توجد أبدا أية موهبة فطرية عظيمة دون مَسٍّ من جُنون .
- في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين بدأ التقييم المستنير للجنون .
- روبرت بيرتون : كل الشعراء مجانين . وأضاف إليهم الفنانين والفلاسفة .
- درايدن : العقول العظيمة مرتبطة يقينا بالجنون على نحو وثيق .
- بليز باسكال : المفكر العظيم متهم بالجنون تماما كالمجرم العظيم .
- لامارتين : تحمل العبقرية في ذاتها مبدأ الهدم والموت والجنون .
- تشارلز لامب : بعيدا جدا عن موقف القائلين بأن العبقرية العظيمة ملازمة للجنون ، فإن أعظم الموهوبين على النقيض من ذلك ، هم دائما أعقل الكُتّاب ، ومن المستحيل على العقل أن يتصور ، أن شكسبير كان مجنونا .
ألم أقل أن المفهوم اجتماعيا وأدبيا مفهوم ملتبس .. أما أنا سأحاول ( أقول سأحاول) لأنني بطبعي تسويفي .. سأحاول الكتابة في هذا الباب حتى تأسيس ( دولة المجانين ) أو ( جمهورية الجنون الكونية ) .
وأحببت دولة المجانين ببساطة ؛ لأنني أحببت مجانين قريتي أو بالأحرى مدينتي ، مؤخرا توفي أحد من يتهم بالجنون وهو من جيراننا ، والناس كانوا يحاذون الجدار إذا مر بهم ، أما أنا فقد بكيت حينما سمعت بموته ..أظن ظنا قويا أن المجنون أكثر الناس نضجا وحيوية ؛ ولذا هو متهم بالجنون !!
هناك خيط رفيع بين جنون العبقرية والجنون ذاته ؟؟!
أحببت جنون رامبرانت الفنان الهولندي ، وجنون بابلو بيكاسو من خلال فلمين شاهدتهما عنهما !! حيث لفت نظري في الفلمين أن المخرجين ركزا على إبراز شخصيتهما الفنية بتناقضاتها الجنونية والغريبة واللامنطقية أحيانا .
( إن المجتمع هو الذي ينظر إلى من يخرج عن سياقه على أنه مجنون) .. هذا ما قاله انطونان آرتو عن فان غوغ .. وهو ما بدا واضحا في الفلمين عن رامبرانت وبيكاسو ..وفي هذا الكلام بين المزدوجتين كثير من الصحة .. وتسوق في عالم الأفكار والواقع كي ترى ما هو أفظع من ذلك ..
[ في ليلة من ليالي الخريف تناقشت مع بعض الأصدقاء عن بعض من يتهمون بالجنون في البلد .. من هم ؟ كم عددهم ؟ موقف المجتمع منهم سلبا وإيجابا .. أحيانا كثيرة يكون للمجتمع موقف غير إيجابي من هؤلاء مما يسبب لهم ردة فعل قاسية عاطفيا ونفسيا ، ليس معنى هذا أننا من أكمل الناس وعيا وتهذيبا ، وسوف نؤسس جميعة مجانين بلا حدود ، وإنما هو موضوع للنقاش أحببتُ الدردهشة فيه بلغة بسيطة وعادية .. ]
فاصلة شعرية :
نقل العماد الأصفهاني في كتابه خريدة القصر وجريدة العصر الآتي: ذكر لي بعض أصدقائي من بغداد أنه رأى من عقلاء المجانين بها في زماننا رجلا يقال له (طَلْق) ، وأنشدني لنفسه :
لا يغرّنْك اللباس * ليس في الأثواب ناسُ
هم وإن نالوا الثريا * بخلاءٌ وخِساسُ
كل مَن يدعى رئيسا * هو في الخسّة راسُ
ويدٍ تصلح للقطـ * ـع تُفَدّى وتُباسُ
هناك تعليق واحد:
من الغريب ان يفهم المجنون
إرسال تعليق